الكفارة والرغبة في المصالحة
منذ أيار/مايو 2015، تُعقد سلسلة من الندوات التي يشارك فيها عدد غير محدد من المتحدثين عن «المصالحة» ضمن سلسلة موجز السياسة الصادرة عن دار توركل أوبسال الأكاديمية للنشر الإلكتروني (TOAEP). وقد نُشر أكثر من عشرة موجزات عن مختلف جوانب الموضوع. ويوجد قائمة بالروابط التشعبية أدنى هذه الصفحة.
وتوحي تلك المنشورات بأن صور التعبير عن الأسف إزاء معاناة ضحايا الجرائم الوحشية الجماعية قد تُحد من المطالبة بالثأر؛ مما يزيد من فرص تحقيق «المصالحة». ويمكن أن تتخذ تلك التعبيرات أشكالاً عديدة بدءا بالاعتراف بارتكاب الجرائم في الإجراءات الجنائية وانتهاء بالتعبيرات الفنية. ولا تمثل التعبيرات الأخيرة بالضرورة تجريما ذاتيا أو إقرار بالمسؤولية في حد ذاتها. إذ تنطوي على الاعتراف بحقيقة معاناة الضحايا (ومنهم أفراد أسرهم) والشعور بالأسف إزاء تلك المعاناة. وقد تؤثر هذه التعبيرات على سلوك الضحايا وتوقعاتهم حيال السلام والعدالة، بل تسهم في تحقيق «المصالحة» وبناء وحدة المجتمع.
جثا فيلي برانت على ركبتيه في ما كان يعرف بـ «غيتو وارسو» في 7 كانون الأول/ديسمبر 1970، كما يظهر في الصورة أعلى اليمين. وقد أضحى هذا الفعل المتمثل في الجثو على الركبتين تعبيرا بليغا عن الندم أو «تكفير الذنب» أو «الكفارة» من خلال اختيار لغة الجسد. وأسهم ذلك في تحقيق «المصالحة» بين ألمانيا وبولندا بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك في استحداث ما غدا معروفا باسم «سياسة المصالحة» Politik der Versöhnung (انظر الصورة الثانية على اليمين). وقد سعى برانت، من خلال الانحناء والجثو، إلى تحقيق أكبر قدر من الوحدة بين الأمتين: الألمانية والبولندية؛ فقد يؤدي وضوح المفاهيم إلى تحفيز روح الإبداع الفني.
إن رغبة فيلي برانت في "المصالحة" تستدعي إلى الأذهان الكفارة بوصفها مفهوما وبحسبانها خصلة شخصية. ومن المثير للانتباه أن «الكفارة» ومقابلها باللغة الإنكليزية atonement تعني «التوحيد»؛ إذ يتجول العقل بداية من الأصل اللاتيني "ad-una-mentum" الذي يعني (الوحدة) مرورا بالعبارة الإنكليزية "to-one-make" وانتهاء تعبير "to one something" أي جعل شيئا ما كيانا واحدا. وتحمل «الكفارة» فكرتين منفصلتين، هما: أ) التعبير عن الندم، ب) إعادة توحيد شيئا ما أو الجمع بين مختلِفَين. ويركز المفهوم على الضحايا ومعاناتهم، وهذا هو لب الندم، وهو الأساس الذي ينبغي بناء المصالحة عليه. ومن منظور شخصي، ينطوي شعور أي شخص بالندم على نوع من التقمص الوجداني والحس الأخلاقي. أما جوهر فكرة المصالحة، فيفترض وجود وعي اجتماعي لدى الشخص بأهمية الوحدة، والعزم على المساهمة في تحقيقها.
لقد أثَّرت فكرتي «المصالحة» و«الكفارة» على العديد من الأطراف الفاعلة في مجال العدالة الانتقالية؛ إذ لم تقتصر على العدالة الجنائية إزاء الجرائم الدولية الأساسية. وقد تعمق مورتين بيرغسمو، مدير مركز بحوث ودراسات القانون الدولي بصفته مستشار عملية السلام بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية في استكشاف مفهوم "المصالحة" طالبا المشورة من مهندسين معماريين وفنانين بشأن كيفية التعبير عن المفهوم وتراث فيلي برانت بطريقة فنية تحمل معاني عميقة. وشجَّع الطرفين على استخدام الفن في عملية «المصالحة» واتخذ العديد من الخطوات لتمكين الأطراف الفاعلة المعنية من ذلك.
وأشرك بيرغسمو مهندسا معماريا هو آدم ج. ت. روبارتس (وهو كندي الجنسية وقد عمل في مختلف أرجاء الصين منذ تسعينيات القرن العشرين) والنحَّات جايسون آركلس (وهو أمريكي الجنسية ويقيم في فلورنسا منذ تسعينيات القرن العشرين) للتوصل إلى بعض الأفكار عن طرق التعبير عن «المصالحة» و«الكفارة» من خلال النحت؛ مستلهما هيئة فيلي براندت وهو جاث على قدميه في صورته التي التقطت في عام 1970. وعلى الرغم من أنها مجرد اسكتشات، فإننا أدرجنا بعض الصور في العمود الأيمن في هذه الصفحة. وكما ترى، شملت الأفكار كلتا المنحوتتين التجريديتين (اللتان تصوران مشهد الانحناء والتوحد مع الذات) والنحت الرمزي (الذي يستلهم التاريخ الكولومبي، حيث يصور بوليكاربالا سالافاريتا وهي تحرر نفسها من قيود الطمع والصراع والخوف). وقد قٌدمت هذه الأفكار إلى قيادة القوات المسلحة الثورية الكولومبية في مجمع هافانا الأخضر حيث عُقدت مفاوضات السلام الكولومبية.
وقد عُرِضت هنا أملاً في تشجيع الآخرين على تقديم أعمال فنية في إطار عمليات السلام أو عمليات «المصالحة» الحالية أو المستقبلية. ويجد مفهوما «المصالحة» و«الكفارة» متسعا لهما في خضم النقاشات الدائرة بين القانون والفلسفة والفن والدبلوماسية، والإجراءات التي تتخذ مستندةً إلى مجال من هذه المجالات. ويدرك أحيانا بعض الساسة والدبلوماسيين المنخرطين في عمليات السلام و«المصالحة» الحقيقية كيف يمكن «للتعبير الفني» عن «الكفارة» أو «المصالحة» أن يخاطب خيال العامة. وقد يوطد ذلك أهمية الاتفاقات الرسمية، بل ويزيد من أثرها في بعض الأحيان. بيد أن تقديم أعمال ذات تعبيرات فنية لا يعتمد على المسؤولين المنخرطين في عمليات السلام و«المصالحة»، بل إن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك؛ فقد تؤثر أيضا مبادرة من أفراد أو من المجتمع المدني على الرغبة في «المصالحة»؛ مثل مبادرة الفن والعدالة الدولية التي تتولى زمام قيادتها مارينا أكسينوفا.
ومن ثم، ينبغي إجراء مزيد من الأبحاث والتحليلات حول قدرة التعبير الفني الذي يتناول عمليات السلام و«المصالحة» على تصوير خيال العامة أو تطلعاتهم وتحفيزها. وثمة موضوع آخر يتطلب مزيدا من التأمل وهو السؤال: هل يكفي أن يعترف القانون الدولي بالقيم الأساسية أو المصالح المتعلقة بـ «المصالحة» و«الوحدة».