اتفاقات دايتون في ضوء الجرائم الشنيعة المرتكبة في البوسنة والهرسك وإنكارها
مقر مركز بحوث وسياسات القانون الدولي، فلورنسا، 14 شباط/ فبراير 2025
اجتماع خبراء لعام 2024 المتعلق بـ«الوساطة من أجل السلام والقانون» | الطبعة الثانية من دور القانون في مفاوضات السلام | مناقشات المركز مع سعادة السفير إيفو يوسيبوفيتش | مناقشات المركز مع الدكتور برتراند رامشاران | محادثة المركز مع السفير داغ نيلاندر | مناقشات المركز مع السفير يوهان فايب | الحلقات الدراسية وموجزات توجيه السياسات لعام 2007 | منشور سلسلة موجزات توجيه السياسات رقم 149 بقلم مورتن بيرغسمو
قبل بضعة أشهر من الذكرى الثلاثين لإبرام اتفاقات دايتون، ناقش هذا الاجتماع المغلق في مقر (بوتيغا) مركز بحوث وسياسات القانون الدولي في فلورنسا الاتفاقات في ضوء الجرائم الوحشية التي ارتكبت في البوسنة والهرسك وإنكارها مع التركيز على الإجابة عن سؤال مفاده: هل انتهت إلى ترجيح كفة أشد الجرائم الدولية خطورةً على حساب السلام الإيجابي؟ وقد ترأس الاجتماع مدير مركز بحوث وسياسات القانون الدولي مورتن بيرغسمو، وحضره البروفيسور إيفو يوسيبوفيتش (الرئيس السابق لكرواتيا)، والقاضي ليو داكون (القاضي بآلية تصريف الأعمال المتبقية الدولية للمحاكمتين الجنائيتين الدوليتين)، ونائب السفير إيرلينغ هويم (السفارة النرويجية في روما)، والبروفيسور سارة نوين (الجامعة الأوروبية الدولية وكيمبريدج)، والسيد بيتر ماكلوسكي (المدعي السابق للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في قضايا سربرينيتشا).
وُقِّع الاتفاق الإطاري العام للسلام في البوسنة والهرسك الذي يضم 11 ملحقاً (تحتوي على 10 اتفاقات ودستور) في باريس في 14 كانون الأول/ديسمبر 1995، ولا يزال ساري المفعول بين الأطراف البوسنة والهرسك وكرواتيا وجمهورية يوغوسلافيا الاتحادية (التي سُميت صربيا لاحقاً). وقد أدى هذا الاتفاق إلى تحقيق أهداف منها: (1) الحفاظ على السلام في البوسنة والهرسك وبين الأطراف الثلاثة لمدة تقرب من 30 عاماً؛ (2) ضمان الاعتراف المتبادل بين البوسنة والهرسك وجمهورية يوغوسلافيا الاتحادية؛ (3) إنشاء نظام دستوري في البوسنة والهرسك؛ (4) توفير الظروف المواتية للبوسنة والهرسك في ميادين المساعدة والتعاون والتجارة على الصعيد الدولي، وهي المجالات التي تضررت بشدة جراء النزاعات المسلحة. وهذه إنجازات مهمة لا بد من أن يُحتفل بتحقيقها كما ينبغي في الذكرى السنوية الثلاثين. ولم تأت هذه الاتفاقات من فراغ، بل كانت ثمرة عملية استمرت ثلاث سنوات بقيادة المؤتمر الدولي المعني بيوغوسلافيا السابقة. وفي مناقشاته مع المركز، يناقش مدير المؤتمر الدكتور برتراند رامشاران الاتفاقات علاوة على أعمال المؤتمر ويدافع عنها.
ولكن ثمة تحديات خطيرة في تنفيذ الاتفاقات، وخاصة في البوسنة والهرسك، حيث يشل كيان «جمهورية صربسكا»، الذي اعترف به النظام السياسي اللامركزي الذي أرساه دايتون، المؤسسات الدستورية، وما فتئ يهدد مراراً وتكراراً بالانفصال عن البوسنة والهرسك. ولذلك، ليس من المستغرب أن تتعرض الاتفاقات لانتقادات بسبب: (1) إنشاء نظام حكم معقد يؤدي إلى الجمود بين مستوى الكيانات والمستوى الوطنية؛ (2) تسهيل الاعتماد على الجهات الفاعلة الأجنبية أو الدولية التي توجه الموارد إلى المنظمات غير الحكومية على حساب الجهات الفاعلة المحلية والاستثمارات الاقتصادية؛ (3) إنهاء العنف الذي ولدته الحرب مع إيجاد «سلام سلبي»، وتقنين الانقسام بين المسلمين والصرب في البوسنة؛ (4) الفشل في تيسير المصالحة الحقيقية بين الجماعات المختلفة؛ (5) عدم بذل جهود كافية لتعزيز الهوية المشتركة للبوسنة والهرسك، وتوزيع السلطة على الهويات الإثنية القومية. ويتطلب التعامل مع هذه الانتقادات قدراً مدروساً من المعرفة والفهم للوضع في البوسنة والهرسك، وهو ما قد لا يتوافر دائماً لدى المؤلفين المتخصصين في هذا الموضوع.
وقد ناقش هذا الاجتماع المغلق في مقر المركز بفلورنسا الإنجازات والتحديات التي واجهتها اتفاقيات دايتون. وألقى التقرير نظرة فاحصة على اتفاق دايتون من منظور أشد الجرائم الدولية خطورةً المرتكبة في البوسنة والهرسك خلال الفترة بين عامي 1992 و1995، بهدف الانتهاء إلى وجود دروس محتملة يمكن أن تستفيد بها وساطة السلام في المستقبل من عدمه. ولئن كانت المادة التاسعة من الاتفاق الإطاري العام تعترف بالتزام الأطراف «بالتعاون في التحقيق في جرائم الحرب وغيرها من انتهاكات القانون الإنساني الدولي ومقاضاة مرتكبيها» -وقد ساهم تنفيذ الاتفاق في تيسير عمليتي تقصي الحقائق والقبض على المطلوبين غير المسبوقة التي اضطلعت بها المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في البوسنة والهرسك- فقد تعرضت الاتفاقات لانتقادات بسبب الاعتراف بـ «جمهورية صربسكا» على الرغم من جرائمها الدولية الخطيرة خلال السنوات الثلاث والنصف السابقة، وهو الاعتراف الذي منحها شرعية وصلاحيات دستورية لا يُستهان بها. لقد استُبعدت «جمهورية صربسكا» من المشاركة المباشرة في مفاوضات دايتون (التي جعلت بدلاً من ذلك جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية والسيد سلوبودان ميلوسيفيتش ممثلها) ولم تُمنَح القيادة الصربية البوسنية الحصانة من أشد الجرائم الدولية خطورةً، بل على العكس من ذلك، حُوكِم كبار القادة رادوفان كارادزيتش، وراتكو ملاديتش، ومومشيلو كرايشنيك، وبيليانا بلافسيتش جميعاً أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. ولكن دايتون جعل الدويلة التي ولدت من رحم جرائمها حقيقة قانونية، وأقر دستوريا بمعظم الأراضي التي استولى عليها من خلال الهجوم (بالإبادة وغيرها) وتهجير المسلمين البوسنيين والكروات بالقوة منذ ربيع عام 1992. ومما يزيد الطين بلة أن زعماء صرب البوسنة مارسوا في وقت لاحق إنكاراً واسع النطاق للجرائم الشنيعة التي ارتكبتها القوات الصربية البوسنية والصربية (كما أكدته العديد من الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، ومحكمة الدولة في البوسنة والهرسك، والمحاكم الكرواتية، بما في ذلك إدانات الإبادة الجماعية المرتبطة بسريبرينيتسا).
إن هذا الانفصال بين المكاسب الاجتماعية السياسية الملموسة التي حققها صرب البوسنة بفضل اتفاق دايتون، من ناحية، والوسائل التي استخدموها لإقامة وتأمين «جمهورية صربسكا»، من ناحية أخرى، يثير العديد من التساؤلات. هل ينتهك اتفاق دايتون -الذي انتهى بعد أسابيع قليلة من قتل أكثر من 7000 من المسلمين البوسنيين غير المقاتلين جماعياً في سريبرينيتسا- مبدأ ما بني على باطل، فهو باطل، الذي وصفه هيرش لاوترباخت بأنه «أحد المبادئ القانونية الراسخة»)، من خلال ترسيخ «التطهير العرقي»؟ كيف ينطبق هذا المبدأ على وساطة السلام؟ هل يعتبر بمثابة دليل في عمليات السلام والمصالحة أم أنه ربما لا ينبغي له أن يكبل الدبلوماسية؟ هل كان من الضروري منح «جمهورية صربسكا» صفة الكيان في اتفاقيات دايتون؟ هل أصبح الصرب البوسنيون أقوياء عسكرياً بعد اكتمال عملية «العاصفة» الكرواتية (حتى 14 آب/أغسطس 1995)، وعملية «القوة المتعمدة» لحلف شمال الأطلسي (حتى 20 أيلول/سبتمبر 1995)، وعملية «مايسترال 2» التي شنتها القوات الكرواتية والكرواتية البوسنية (حتى 15 أيلول/سبتمبر 1995)، وعملية «سانا» التي شنها جيش جمهورية البوسنة والهرسك (انتهت في 20 تشرين الأول/أكتوبر 1995) إلى الحد الذي يبرر إضفاء الجهات الوسيطة الشرعية على «جمهورية صربسكا»؟ إن السؤال الوقائعي المثير للاهتمام هو إلى أي مدى طلب الجهات الفاعلة التي أدت دوراً في عملية دايتون من قوات المسلمين البوسنيين والكروات -في الوقت الذي انهارت فيه قوات صرب البوسنة التي كانت أوهن من بيت العنكبوت- ألا تستولي على برييدور (حيث وقع عدد من أبشع الجرائم في البوسنة والهرسك) أو بانيا لوكا. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا؟ هل يمكننا استخلاص أي رؤى نيرة عامة لصالح عمليات الوساطة الرامية إلى تحقيق السلام في المستقبل من خلال إمعان النظر في هذه الأسئلة؟